الجمعة، 9 يناير 2009

من القضايا الإيمانية التي تقررها السورة
بما أن القلوب هي محل نظر الله- تعالى وتقدست أسماءه – كان لا بد وأن توليه هذه السورة اهتماما خاصا لا سيما وهي قلب القرآن إن صح الحديث . عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وآله أنه قال : ( لكل شيء قلب وقلب القرآن يس , وددت لو أنها في قلب كل رجل من أمتي ) فكيف إذا تربع قلب القرآن على قلب الرجل ؛ تلك المضغة التي( إذا صَلُحَت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله ) وهو محل الفهم والعقل وصاحب القرار على هذا الجسد (1). إذا فمما ترسخه السورة وتقرره في القلوب :
1- تقرير طلاقة قدرة الخالق - جل جلاله - ويسر تصرفه في خلقه وملكه بما لا يتجاوز قوله : كن , فيكون .
2- تأكيد صحت هذه الرسالة وحقيقتها ومصدرها وسلامتها وبيان سعادة من صدقها وحملها ودعا إليها, وخطورة مصير من عارضها .
3- تحرير المخاطب – المتردد - من قيود التبعية الفكرية و الأسرية و الاجتماعية و النفسية , بالأدلة والبراهين القطعية و مساندته - بعد تجريده من تلك الروابط والتبعية - لتنمية البحث الفردي وإعمال فكره وسمعه وبصره للبحث عن الحقيقة وتقرير مصيره بنفسه وخصوصا في قضاياه المصيرية .
4- بيان طريق النجاة , وطريق الهلاك , من الوقائع والأحداث ومن تاريخ الأمم السابقة ليتمكن من المقارنة بين الفريقين والمصيرين , ثم من السنن الكونية المشهودة . مما يدعم الإيمان ويزيده .ولا بد فكل آية أنزلها الله -جل جلاله- تزيد إيمان من في قلبه شيء من الإيمان قال - جل جلاله- (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)) .
5- بيان بعض سنن الله في خلقه وتطابقها في الأرض والسماء بما يشير إلى وحدانية الخالق المتصرف .
وهذا على سبيل العرض لا الحصر , ولا أبالغ إن قلت: لو أننا تتبعنا قضايا القرآن وفنونه لوجدنا لها في هذه السورة أصلا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-هذه حقيقة أشار اليها القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام , وقد أكدتها الدراسات الحديثة في زراعة القلوب وقد نشرة في فلم وثائقي في قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان القلوب مستودع الذكريات ولم يشر فيه بسبق القرآن ...
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
يس : على المعنى المعروف من اليأس أي يائْسِين .
وقد سكت أبو جعفر على (ياء) سكتة لطيفة من غير تنفس وأدغم النون الساكنة في واو القسم .ولا يخفى إظهار همزة الياء عند السكت , وقرأ الباقون بالتسهيل أي ياسين .
والحكمة في قراءتها بهذين والوجهين - والله أعلم – أنه لما كان يخاطب به أقواما أميين لا يعرفون القراءة - الا ما ندر- كان لا بد أن يلفت انتباههم إلى هذا الاستهلال الرائع والتركيب الجديد بما يدركون سره سماعيا حتى إذا ما وقع نظر قارئهم على صحيفة مكتوبة تأكد أنها قد كتبت حرفين متصلين مجردين للدلالة على أنه قد ركب لهم كلمة جديدة تركيبا مزجيا من اسمي حرفين هما ياء وسين , وهذا التركيب معنويا تاما .
ثم انظر كيف أنه – جل ثناؤه - بناها على السكون المشعر بالثبات , للدلالة على ثبات الحكم ( لا تبديل لكلماته ) بينه مفصلا بقوله :( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) حق عليهم ذلك القول بحرفين فقط ليس الا( كن فيكون) اشار اليه في آخر السورة
ثم استهل به وجعله آية مستقلة للعناية بهذا المعنى , فالسورة سوف تتناول صورا من القضايا المستحيلة أو الميئوس منها , يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) ثم أكده بالقسم ؛ وأي مقسم به هنا ؟! إنه القرآن أولى القضايا التي يأسوا منها , وكأنه القفل الذي ختم به على يأسهم , فهو سبب ذلك اليأس وقد يأسوا من معارضته أو الإتيان بسورة مثله ولو مفترية . ووصفه بالحكيم – وليس المحكم فحسب – فآياته محكمات وفي مجمله حكيم لأنه منبع الحكمة , والحكيم هو من تؤخذ منه الحكمة , وفي هذه السورة بالذات لأن السورة هي قلب القرآن , والحكمة موضعها القلب. وهذا أقرب من قول أنه فعيل بمعنى مفعول .
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) وهذه ثاني القضايا التي قد يئسوا منها وأنه على صراط مستقيم وأنه تنزيل العزيز الرحيم . ولما يأسوا من هذه القضايا أجمعوا على قتلة r وهذه حيلة العاجز اليائس. وعلى رأس ألئك اليائسين الذين اجتمعوا في دار الندوة ابليس . ولهذا خرج رسول الله r من بين أظهرهم وهو يتلوا هذه الآيات .

وبهذا خرج بالكلمة عن جمع المذكر السالم المنصوب والذي لا يحسن أن يكون مبتدأ ولا خبرا مقدما . مع بقاء المعنى إذ أنهم في الحقيقة مفعول بهم ذلك اليأس فبسبب عنادهم وكفرهم حق عليهم . ثم أطلق ذلك المركب الجديد اسما للسورة , وفيه إشارة إلى كونه اسما مركبا يجري عليه ما يجري على المركب .أنظر كيف يخترق قواعدهم ليأتيهم بما لا يمكن الاعتراض عليه ولا الإتيان بمثله بل بما يطربون لسماعه وينبهرون لبيانه . فسبحان الله إنه على كل شيء قدير . ولو تأملت هذا المعنى في مقاطع السورة لوجدته واضحا جليا فيصوغ لهم من أسم الحرف كلمة مفردة فيسوق على ذلك المعنى مقاطع السورة , وتارة يصوغ لهم كلمة من حرفين وتارة جملة من حرفين بأسماء الحروف لا بصوت الحرف المعروف وهذا ما لم يعهدوه من قبل وبهذا الإبداع فسبحان المبدع .

المقدمة

ِِالحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى , وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث بالهدى وآله , وبعد
فأنا لا أزعم لنفسي- ما قاله الشاعر:
(وإني وإن كنت الأخير زمانه * *ِ * لآت بما لم تستطعه الأوائل ) كما قد يفهم من الخبر - ولكنني وأنا في رحلة تدبر لهذه المعجزة العظيمة الخالدة خطرت لي تساؤلات جعلتني أتوقف عند تلك الأحرف كلما قرأتها حتى أصْبَحَتْ تلازمني فإذا ما أويت الى فراشي ذات ليلة بدأت أقرأ في نفسي ( ق والقرآن المجيد ) قلـَّبْتُها , كرَّرْتها , فإذا بالصوت يعنى شيئاً وهو اقتفاء الأثر . ولكن لماذا كتبت ق ولم تكتب قاف ؟ ولماذا فصحاء العرب سكتوا عنها فلم يذكر أن أحدهم سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يعني ربك بـ (ق ) ؟. وذلك يعني أنهم وقفوا لها على معنى , بل وأدهشهم ! . وحتى الصحابة لم يذكر أن أحدهم سأل عنها . وهذا يعني أيضا أنهم قد فهموا معناها , ولم يُسأل عنها الا في عهد التابعين ؛ الى آخر ما هنالك من أسئلة جعلتني أبحث فيما عندي من كتب التفاسير . فلم أجد فيها من أشار الى معنى مفهوما مقنعا يرتبط بسياقها ويستند الى قواعد اللغة إلا أنهم يشيرون الى قول قتادة ومجاهد ( أنها مفاتيح السور ) فطرت بهذا القول فرحا .
والسور التي سوف نتدبرها هي أربع : ( طه , يس , ص, ق) وهذه السور الأربع دون غيرها من سور القرآن المفتتحة بالحروف المقطعة سميت كما نلاحظ بنفس الحرف المستهلة به .
وفي ذلك سر ذكره المفسرون وهو للدلالة على أن هذا أسم جديد يجري عليه ما يجري على أمثاله من الأسماء.
كما أن هذه الحروف التي افتتحت بها السور الأربع تشترك في أن صوتها يؤدي معنى واحدا على أي من القراءات قرئ . وذلك المعنى نجده سمة ظاهرة في مقاطع السورة وآياتها , بل إنه أشبع ذلك المعنى بما لا يدع ثغرة لأحد أن يأتي بمثله أبدا , إلا أن يأتي به كما هو. مع ملاحظة أنه لم يطالبهم سوى بوظيفة اللسان من حيث الفصاحة والبيان فقط ولو كن مفتريات من حيث الحقيقة والتأويل وصدق الخبر.
ولو حلقنا في فضاء- بل كون- هذا الإعجاز لما بلغنا أطرافه ومنتهاه , ولنبدأ معا في تدبر ما يسره الله من مطالع السور الأربع ونبتدئ بتدبر سورة يس قلب القرآن سائلين المولى - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ييسر لنا بها تدبر القرآن العظيم أنه سميع قريب مجيب .