الجمعة، 9 يناير 2009

من أحداث السيرة في ضوء السورة
إن ما يتضح من تاريخ السير وأسباب النزول أنها نزلت في أواخر المرحلة المكية , أي في اللحظات الحرجة من الصراع والتحدي , بعد أن استنفذ كفار قريش كافة الوسائل لوأد هذه الرسالة في مهدها , إلا أنها كانت لا تزداد إلا قوة وانتشارا , ولا يزيد أتباعها – رغم ما واجهوه من تعذيب , مع ضعفهم وعجزهم عن الدفع- فلا يزيدهم ذلك إلا إصرارا على التمسك بهذا النور الذي ملأ قلوبهم .
ولكي نرى بوضوح صورة لجانب من ذلك اليأس المطبق على قلوبهم. (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) و (َأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) من خلال عرض مشهد من أحداث السيرة في أواخر المرحلة المكية حاملين معنا مفتاح السورة ( يس ),ومنها نتذوق روعة التصوير الرباني المنْطَبق الدقيق وهو يصفهم .
اجتماع قريش في دار الندوة للتشاور في أمر النبي r وحضور إبليس
قال ابن إسحاق: فحدثني ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعَدوا أن يدخلوا دار الندوة يتشاورون فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ غَدوا في اليوم الذي اتعدوا له، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فوقف على باب الدار، فلما رأوه قالوا: مَن الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجدٍ سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يُعْدمكم منه رأي ونصح. قالوا: ادخل.
فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة، من بني عبد شمس: عُتْبة، وشَيْبة ابنا ربيعة. ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب. ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجُبير بن مُطعم، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبد الدار وقصي: النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البَخْتري بن هشام، وزَمْعة بن الأسود، وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام ومن بني سهم، نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بني جُمح: أمية بن خلف. ومن كان معهم، ومن غيرهم ممن لا يُعَدُ من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد كان نأمَنهُ على الوثوب علينا فيمَنْ قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً.
فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، واغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهَه من الشعراء الذين قبله: كزهَير، والنابغة، من الموت.
فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه، فوثبوا عليكم، فانتزعوه من بين أيديكم.
فقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلدنا.
فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حُسْنَ حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ واللّه لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل بحي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يَطأكم بهم في بلادكم.
فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فيكم، ثم يُعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رَجلٍ واحدٍ ، فيقتلونه، فنستريح، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دَمُهُ في القبائل كلها، فلم يقدر بنو عبد منافٍ على حرب قومهم جميعاً، ورضوا منا بالعَقْل فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هذا الرأي لا أرى لكم غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. فلمَا كانت العَتْمة، اجتمعوا على بابه ثم ترصَدوه متى ينام فيثبون عليه: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، " نمْ على فراشي وتَسج بِبُرْدي الحضرمي الأخضر فَنَمْ فيه، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم " ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في بُرده ذلك إذا نام.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قالَ: أخبرنا أبو بكر بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني عثمان الجزري: أن مِقْسماً مولى ابن عباس أخبره، عن ابن عباس: في قوله تعالى: " وَإِذْ يمكُرُ بِكَ الذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ " .
قال: تَشَاورتْ قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فاثبِتُوه بالوَثَاق يريدون رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي رضي اللهّ عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم ((وهو يتلو قوله تعالى :{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) } حتى لحق بالغار
[وهنا - في اعتقادي - سر ما تحمله السورة من يسر , سوف نبينه إنشاء الله فيما بعد ]
فبات المشركون يحرسُون علياً، يحسبونه النبي عليه السلام، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره.
وبناءا على ما تقدم تتضح لنا أكثر صورة اليأس الذي كان قد أطبق على قلوبهم – وعلى رأسهم إبليس والذي هو الآخر قد اسقط في يده فكلما بعث بعثا ليستطلعوا الأمر عادوا اليه وقد اسلموا بل أصبحوا دعاة لهذه الرسالة يحذرون أقوامهم وينذرونهم حتى لجأ إبليس إلى جنوده علَّه يجد عندهم حلا – وهم يتخبطون في أطروحاتهم , وما أن ترى ما استقر عليه رأيهم من قتله u حتى تتجلى لك أكثر حقيقة ذلك اليأس الذي قد تملكهم .
وتأمل دقة اللفظ , ولطفه جل جلاله في قوله :( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ) فلو قال (عليهم) بدلا من (على أكثرهم)....لهلكوا جميعا وانقطع الأمل في إسلامهم بمجرد هجرة الرسول ص الا أن هنالك قلة لم تزل مترددة لِما يرونه من عناد كبرائهم و إصرارهم على رفض الرسالة , وكبراء القوم الذين حق عليهم القول هم آباء أو أعمام أو إخوان تلك القلة المستهدفة من هذا الخطاب . ولهم في هذا النص بالذات معجزة تؤكد لهم صدق محمد ص وآله , وهي أن كبار القوم المعاندين كان بوسعهم تكذيب محمد ص وآله فيسلموا ولو ساعة من نهار ثم يرتدوا فيلبسوا على الناس صحة الخبر الذي يتلوه عليهم النبي ص وآله . ولكن هيهات فهو حكم من لا معقب لحكمه جل جلاله..
إذا فالغشاوة التي أغشاهم بها الله – وإن لم تكن ترى بالعين المجردة – هي وتلك السدود من بين أيديهم ومن خلفهم ؛ تتضح جلية في :
أن الآيات تتلى عليهم ولم يفطنوا لتكذيب ما حكمت به عليهم . وهي معجزة , وآية للبقية ممن لم يسلموا بعد إذا تحققت علموا يقينا بصدق الرسالة . وسوف تتكرر معنا هذه اللفظة ( وآية لهم ) .
ويحضر معهم إبليس شخصيا ولم يستنكروه مع أنهم تواعدوا سرا فلم يعلمه أهل مكة كلهم.! فكيف خرج الخبر الى نجد ؟ ووصل إليهم بتلك السرعة ودون علامات تدل على السفر . ونجد هنا هي القريبة من مكة , وليس كما يظن البعض - ويعتبرها مسبة لأهل نجد المعروفة اليوم- . فلا يمكن بلوغ ذلك الخبر حينها إلى هناك وتمكن الحضور بتلك السرعة دون أن يستنكروا ذلك أو يستغربوه . والله أعلم
خروج الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم -وآله من بين ظهرانيهم وهو يتلو القرآن .
طوافهم بالغار ( لو نظر أحدهم عند قدميه لرآنا ) .
هلاك أكثرهم بعد الهجرة على التوالي إلى غزوة بدر ثم أحد وحتى فتح مكة .تلك المشاهد كلها آيات بينات للبقية من أهل مكة تدلهم على صدق الرسالة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق