الجمعة، 16 يناير 2009

الحلقة الخامسة
الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى , وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث بالهدى , وآله الطيبين الطاهرين أُلِي النهى . وبعد
فلا زلنا أيها الأحبة في تتبع معنى يس وقبل أن نمضي في استكمال ما قد بدأناه , أود التذكير بالمقدمة - والتنبيه إلى ما فاتني هناك – ثم نسخها مقدمة لكل حلقة ؛ ليتسنى لمن قرأ أي حلقة فهم ما يدور حوله الحديث , والهدف الذي نسعى إليه . وهو إثبات ما يلي :
يس (1) كلمة مركبة من اسمي حرفين هما الياء والسين .- (والمركب : هو ما أريد بتركيبه معنىً لا يقوم به جزءه (1) ) – وأن هذا التركيب معنويا تاما , وذكرنا أنها تـُقرأ ( ياسين ) بالتسهيل . و(ياءْ سين) بسكتة لطيفة على الياء دون تنفس , وقد تدغم النون في واو القسم ,وذكرنا سر القراءتين , وأنها على معناها المعروف من اليأس . واستقلت بآية لتمام معناها كما أن إطلاقها اسما للسورة فيه إشارة إلى أنه أحدث لهم أسما جديدا ينطبق عليه ما ينطبق على أمثاله من الأسماء المركبة . واستهل بها السورة , وهذا ما يسمى في علم البلاغة ( براعة الاستهلال ) فخرج بالكلمة عن جمع المذكر السالم (يائِسين) المنصوب - والذي لا يحسن أن يكون مبتدأً ولا خبرا مقدماً . كما أنه محدود المعنى , طويل المبنى - إلى كلمة جديدة قصيرة المبنى عظيمة المعنى لا تتجاوز حرفين كن فيكون , فالمعنى الذي نحن بصدده أعم ينطبق على ما تضمنته السورة . من القرآن الحكم , إلى آخر ما تضمنته السورة من معنى اليأس .
وبما أن الحكيم – جل جلاله – قد أعاد تركيب الكلمة فعدل عن التركيب الهجائي للحرف إلى التركيب الاسمي ؛ فبدلا من تركيب من ( يـَ , اْ , ئِـ , سـِ ,يـْ , ن ) أصبحت (يس), فألبس الكلمة ثوبا جديدا في الرسم والصوت - بما لم ولن تعهد الإنس والجن مثله قبله أو بعده - فقد صحح كذلك بعض المفاهيم حول هذا المعنى وأقر وأضاف وأحدث , كما صحح في الرسم والصوت , وقد بيناه سابقا.


يس (1) براعة استهلال -لا يمكن أن تكون إلا لمن علم آدم الأسماء كلها- , وتصرفٌ في الاسم والمسمى لا يستطيعه إلا (من بيده ملكوت كل شيء) .فمن تكون قريش والعرب بل الإنس والجن كلها , حتى تعارضه أو تأتي بمثله . فبرسم مبناها , وتمام معناها كانت أية بينة , فقائلها المبين , ونزل بها (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) -عليه السلام - فجال بها الصادق الأمين - صلى الله عليه وآله و سلم- فردا, يقرع بها سمعَهم ويتلوها بين ظهرانيهم , فما يستطيعون صرفا ولا نصرا . حتى هلكوا يوم بدر فرداً فردا . فشفى صدر رسوله , وصدورنا منهم ( اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا) ( اللهم عليك بفلان , وفلان و فلان ....... ) فعدهم بأسمائهم عدا , حتى إذا كان يومَ بدرٍ طاف بأصحابه فأراهم مصارع القوم ( هذا مصرع فلان , وهذا مصرع فلان ....... )قالوا: فلما انتهت المعركة , أتينا وهم حيث أشار رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – صرعى .
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
إذا فهنالك بقية في مكة تراقب الأحداث خطوة بخطوة , تتجرع مرارة الصدمة تلو الصدمة , وتُطابـِق الحدث مع المعنى , فهم وأمثالهم من هذه الأمة سوف يكون لهم شأنا.
فإلى قوله – تعالى -: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) ) ومع أن هذه الآية الأخيرة نزلت في المدينة في جماعة من الأنصار إلا أنها تتناغم في سياقها تناغما عجيبا , وبالطبع فالترتيب توقيفي . فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر كتاب الوحي إذا نزلت آية فيقول لهم: ضعوها بين آية كذا وكذا من سورة كذا .
حصر المنتفعين بهذا الإنذار بأنه لـ(مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) فمن اتبع الذكر وخشي الرحمن (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) وهذه قضية قد أصبحت مستحيلة على من حق عليهم القول .
فيحلق بتلك القلوب العاقلة المتفكر ليصحح تلك المفاهيم الملبسة عليها إما بالخوف أو بالتضليل الإعلامي والتعتيم ,ويحررهم من تلك التبعية بشتى أنواعها , فيفتح لهم هذا الباب للحاق بركب الإيمان ,وإلا فكيف سينسون دماء أحبابهم وينضمون الى صفوف المسلمين لو لم يكن قد جردهم من تلك الروابط بما تُسَلِّم له القلوب . وتستسلم , فتتبع الذكر وتخشى الرحمن فتبذل دماءها في سبيل الله.
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى) فإحياء الموتى قضية ميئوس منها عند الكفار , تكرر ذكرها كثيرا في القرآن , وكذلك الموتى من الكفار يائسين من العودة ومن النجاة من عذاب الله الذي حذروا منه .( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) سورة الجمعة . كما أن حال الموتى مشابه تماما لحال الطغاة الذين جعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا , فالموتى في برزخ إلى يوم يبعثون فلا عودة الى الحياة ,ولا بعث إلا يوم الدين.
ولكنه يؤكد أن البعث وإحياء الموتى حقيقة , وليست مستحيلة كما يزعم الكفار , فيلبسوا على الناس الأمر معللين إنكارهم للرسالة هو تقريرها لهذه الحقيقة .
(وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ ) إحصاء الأعمال واقتفاء الأثر بينه مفصلا في سورة ( ق) والتي هي من أوائل السور التي نزلت لترد على منكري البعث .

وفي التأملات القادمة – إن شاء الله - ضرب المثل وأصحاب القرية ومعنى يس (1) في تلك القصة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق